سورة المطففين - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المطففين)


        


{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}
التطفيف: البخس في الكيل والوزن: لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت فأحسنوا الكيل. وقيل: قدمها وبها رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان: بكيل بأحدهما ويكتال بالآخر. وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم. وقال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» وعن علي رضي الله عنه: أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل.
وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين: بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان؛ وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين: كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون، وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم.
وعن عكرمة: أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار. فقيل له: إنّ ابنك كيال أو وزان؛ فقال: أشهد أنه في النار.
وعن أبيّ رضي الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم: أبدل (على) مكان (من) للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق (على) بيستوفون، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة؛ فأما أنفسهم فيستوفون لها؛ وقال الفراء (من) و (على) يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه؛ فإذا قال اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك؛ وإذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك. والضمير في {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} ضمير منصور راجع إلى الناس. وفيه وجهان: أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم؛ فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال:
وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وَعَسَاقِلاً *** وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ نَبَاتِ الأوْبَرِ
والحريص يصيدك إلا الجواد، بمعنى: جنيت لك، ويصيد لك، وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين، لأنّ الكلام يخرج به إلى نظم فاسد؛ وذلك أنّ المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا؛ وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر لأنّ الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، والتعلق في إبطاله بخط المصحف، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه: ركيك؛ لأنّ خط المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط، على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، وهو يدعو؛ فمن لم يثبتها قال: المعنى كاف في التفرقة بينهما.
وعن عيسى بن عمر وحمزة: أنهما كانا يرتكبان ذلك، أي يجعلان الضميرين للمطففين، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا فإن قلت: هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل {أَوْ وَّزَنُوهُمْ}؟ قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً {يُخْسِرُونَ} ينقصون يقال: خسر الميزان وأخسره {أَلا يَظُنُّ} إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً {أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة.
وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، وأعدل كما تحب أن يعدل لك.
وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.
وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابياً قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين: بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل، وقيل: الظنّ بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر؛ ونصب {يَوْمَ يَقُومُ} بمبعوثون. وقرئ بالجر بدلاً من (يوم عظيم) وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين (6)} بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده.


{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)}
{كَلاَّ} ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم. وكتاب الفجار: ما يكتب من أعمالهم.
فإن قلت: قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه في سجين، وفسر سجيناً بكتاب مرقوم؛ فكأنه قيل: إن كتابهم في كتاب مرقوم. فما معناه: قلت {سِجِّينٍ} كتاب جامع هو ديوان الشر: دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو كتاب مرقوم مسطور بين الكتابة. أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمى سجيناً: فعيلاً من السجن، وهو الحبس والتضييق. لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح كما روي تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم، وهو مسكن إبليس وذرّيته استهانة به وإذالة، وليشهده الشياطين المدحورون، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون.
فإن قلت: فما سجين، أصفة هو أم اسم؟ قلت: بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم. وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف.


{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}
{الذين يُكَذِّبُونَ} مما وصف به للذم لا للبيان، كقولك فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث {كَلاَّ} ردع للمعتدي الأثيم عن قوله: {رَانَ على قُلُوبِهِمْ} ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها: وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه.
وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه، رينا وغينا، والغين: الغيم، ويقال: ران فيه النوم رسخ فيه، ورانت به الخمر: ذهبت به. وقرئ بإدغام اللام في الراء وبالإظهار، والإدغام أجود. وأميلت الألف وفخمت {كَلاَّ} ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم. وكونهم محجوبين عنه: تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. قال:
إذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عُبْيَةٍ رُجِبُوا *** وَالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَرْجُوبٍ وَمَحْجُوبٍ
عن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة: محجوبين عن رحمته.
وعن ابن كيسان: عن كرامته.

1 | 2 | 3